بسم الله الرحمن الرحيم
في هذه الليلة الصيفية الساحرة بهدوئها، جفا جفنَيّ الكرى كعادتي فخرجت من بيتي لا أنوي
على شيء... مستجيرا بنسيم الليل من صهد الجدران. لست أذكر كم فكرة عنّت لي،
وكم خاطرة خطرت ببالي وأنا هائم على وجهي متسكعا بين الأزقة... إلا أن الفكرة التي
فرضت نفسها علي وأنا أقفل راجعا إلى بيتي هي السؤال عن الفرق بين الكتابة بالقلم
على الورق و الرقانة بلوحة المفاتيح على صفحة "وورد" الافتراضية مثلا.
فكرت أن أعالج هذه الفكرة بالقلم على ورقة بدلا من رقانتها مباشرة على الكومبيوتر مع
أنني أعرف أنني سأكتبها على الكمبيوتر لاحقا حتى يصل إليك هذا الموضوع حيث أنت الآن.
أول سؤال خطر ببالي كان عن قَسم الله في محكم كتابه: (ن والقلم وما يسطرون). في هذه
الآية يقسم الله تعالى بالقلم، وإنه لقسم لو كنا نعلم عظيم.. لكن لماذا يقسم الله تعالى بالقلم؟
كم سيكون ثمن أغلى قلم في العالم؟ ومهما بلغ ثمنه، هل سيكون غلاء سعره كافيا لكي يقسم
الله في عليائه به هذا القسم العظيم في آخر كتاب أنزل من السماء إلى أهل الأرض؟
إن الله تعالى حين يقسم بشيء ما في القرآن فإنه إنما يريد سبحانه أن ينبهنا إلى خطورته
وعظمة شأنه، وإن كنا عنه غافلين. فهو سبحانه عندما يقسم بالقلم فلأنه الأداة المُعينة
على تنفيذ أمره الأول لنبيه الأمي وأمته الأمية: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، ولأنه الأداة
التي بها علّم سبحانه الإنسانية : (علّم الإنسان بالقلم)...
لقد صار لدينا اليوم أداة تعليمية غدت تضاهي القلم وتتجاوزه في مجالات عدّة، وهي الكمبيوتر...
ألا تستحق هذه الأداة أن نحتفي بها كما احتفينا بالقلم؟ أليست تشترك معه في الغاية،
بل وتتفوق عليه؟
دعني، أيها القارئ العزيز، أشركك معي في هذا الموضوع.. ما هو الإحساس الذي يخالجك
وأنت تدوِّن خواطرك بقلمك على الورق؟ ثم ما هو إحساسك وأنت تدون نفس الخواطر على
صفحات مدونتك أو منتداك أو غيرهما ؟هل يستويان لديك؟
الحقَّ أقول لك.. لا يستويان لدي، فأنا حين أخط كلماتي بقلمي على الورق أرتبط بها ارتباطا
أكثر حميمية مما لو رقنتها بلوحة مفاتيح الكمبيوتر. فعلاقتي بما تخطّه يميني تشبه إلى حدّ بعيد
علاقة الوالد بولده، لأني أشعر كأن خصائصي الوراثية مرّت إلى الورقة، أو كأن بصمات حمضي
النووي رسخت على الصفحات البيضاء... أعرفها من بين مئات الأوراق من ملامحها بمجرد النظر
إليها دونما حاجة إلى قراءتها... الواقع أنني لا زلت أعثر بين الفينة والأخرى على أوراق خطّية
قديمة ، فأشعر إزاءها بشعور لا أحسه عندما أنظر إلى أبحاث أو مواضيع رقنتها على الكومبيوتر.
أخشى أن يأتي على الإنسان حين من الدهر لا يكون فيه القلم شيئا مذكورا.. أن يصير القلم ذات يوم
مجرّد موضوع للدراسات الأنثروبولوجية .. أن يصير تعريف القلم في قواميس المستقبل "أنه كان
أداة استعملتها البشرية في العصور الماضية في الكتابة". ولكن حينها ستكون كلمة "الكتابة"
قد فقدت كثيرا من أسمى معانيها.. تماما كما فقدت الرسالة كثيرا من أسمى معانيها عندما
استبدلناها بالبريد الإلكتروني.
تحياااتي لكم
اجمل ابتسامه